كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولقد كان المجتمع الذي تألف من ذلك الجيل أول مرة، والذي ظل امتداده أكثر من ألف عام، تحكمه الشريعية التي جاء بها هذا الكتاب، ويقوم على قاعدة من قيمه وموازينه، وتوجيهاته وإيحاءاته.. كان هذا المجتمع معجزة أخرى في تاريخ البشرية. حين تقارن إليه صور المجتمعات البشرية الأخرى، التي تفوقه في الإمكانيات المادية- بحكم نمو التجربة البشرية في عالم المادة- ولكنها لا تطاوله في الحضارة الإنسانية!
إن الناس اليوم- في الجاهلية الحديثة!- يطلبون حاجات نفوسهم ومجتمعاتهم وحياتهم خارج هذا القرآن! كما كان الناس في الجاهلية العربية يطلبون خوارق غير هذا القرآن!.. فأما هؤلاء فقد كانت تحول جاهليتهم الساذجة، وجهالتهم العميقة- كما تحول أهواؤهم ومصالحهم الذاتية كذلك- دون رؤية الخارقة الكونية الهائلة في هذا الكتاب العجيب!.
فأما أهل الجاهلية الحاضرة، فيحول بينهم وبين هذا القرآن غرور العلم البشري الذي فتحه الله عليهم في عالم المادة. وغرور التنظيمات والتشكيلات المعقدة بتعقيد الحياة البشرية اليوم؛ ونموها ونضجها من ناحية التنظيم والتشكيل. وهو أمر طبيعي مع امتداد الحياة وتراكم التجارب، وتجدد الحاجات، وتعقدها كذلك! كما يحول بينهم وبين هذا القرآن كيد أربعة عشر قرنًا من الحقد اليهودي والصليبي؛ الذي لم يكف لحظة واحدة عن حرب هذا الدين وكتابه القويم؛ وعن محاولة إلهاء أهله عنه؛ وإبعادهم عن توجيهه المباشر. بعدما علم اليهود والصليبيون من تجاربهم الطويلة: أن لا طاقة لهم بأهل هذا الدين، ما ظلوا عاكفين على هذا الكتاب، عكوف الجيل الأول، لا عكوف التغني بآياته وحياتهم مكلها بعيدة عن توجيهاته!.. هو كيد مطرد مصرٌّ لئيم خبيث.. ثمرته النهائية هذه الأوضاع التي يعيش فيها الناس الذين يسمون اليوم بالمسلمين- وما هم بالمسلمين ما لم يحكموا في حياتهم شريعة هذا الدين!- وهذه المحاولات الأخرى في كل مكان للتعفية على آثار هذا الدين؛ ولتدارس قرآن غير قرآنه؛ يرجع إليه في تنظيم الحياة كلها، ويرد إليه كل اختلاف، وكل نزاع في التشريع والتقنين لهذه الحياة؛ كما كان المسلمون يرجعون إلى كتاب الله في هذه الشؤون!!!
إنه هذا القرآن الذي يجهله أهله اليوم. لأنهم لا يعرفونه إلا تراتيل وترانيم وتعاويذ وتهاويم! بعدما صرفتهم عنه قرون من الكيد اللئيم، من الجهل المزري، ومن التعاليم المغرورة، ومن الفساد الشامل للفكر والقلب والواقع النكد الخبيث!
إنه هذا القرآن الذي كان الجاهليون القدامى يصرفون عنه الجماهير بطلب الخوارق المادية. والذي يصرف عنه الجاهليون المحدثون الجماهير بالقرآن الجديد الذي يفترونه، وبشتى وسائل الإعلام والتوجيه! إنه هذا القرآن الذي يقول عنه العليم الخبير:
{هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}..
بصائر تكشف وتنير. وهدى يرشد ويهدي. ورحمة تغمر وتفيض.. {لقوم يؤمنون} فهم الذين يجدون هذا كله في هذا القرآن الكريم..
ولأن هذا هو القرآن يجيء مباشرة في السياق هذا التوجيه للمؤمنين:
{وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}..
فتختتم به السورة التي بدأت بالإشارة إلى هذا القرآن: {كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين} وتختلف الروايات المأثورة في موضع هذا الأمر بالاستماع والإنصات إذا قرئ القرآن.. بعضهم يرى أن موضع هذا الأمر هو الصلاة المكتوبة. حين يجهر الإمام بالقرآن؛ فيجب أن يستمع المأموم وينصت، ولا يقرأ هو مع قراءة الإمام الجهرية. ولا ينازع الإمام القرآن! وذلك كالذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، وقال الترمذي عنه: هذا حديث حسن، وصححه أبو حاتم الرازي، من حديث الزهري عن أبي أكثمة الليثي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: «هل قرأ أحد منكم معي آنفًا به» قال رجل: نعم يا رسول الله. قال: إني أقول: «ما لي أنازع القرآن» فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكالذي رواه ابن جرير في التفسير: حدثنا أبو كريب، حدثنا المحاربي، عن داود بن أبي هند، عن بشير بن جابر قال: صلى ابن مسعود، فسمع ناسًا يقرأون مع الإمام. فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفهموا؛ أما آن لكم أن تعقلوا: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} كما أمركم الله!
وبعضهم يرى أن هذا كان توجيهًا للمسلمين أن لا يكونوا كالمشركين الذين كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى، فيقول بعضهم لبعض بمكة: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} فأنزل الله عز وجل جوابًا لهم: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}.. قال القرطبي هذا وقال نزل في الصلاة. روي عن ابن مسعود وأبي هريرة وجابر والزهري وعبيد الله بن عمير وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب..
وروى ابن جرير سببًا للنزول قال: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم عن المسيب ابن رافع. قال ابن مسعود: كان يسلم بعضنا على بعض في الصلاة، فجاء القرآن. {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}..
وقال القرطبي في التفسير: قال محمد بن كعب القرظي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن في الصلاة أجابه من وراءه. إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم. قالوا مثل قوله، حتى يقضي فاتحة الكتاب والسورة، فلبث بذلك ما شاء الله أن يلبث فنزل: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}. وهذا يدل على أن المعنى بالإنصات ترك الجهر على ما كانوا يفعلون من مجاوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال القرطبي كذلك: وقال قتادة في هذه الآية: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم: كم صليتم؟ كم بقي؟ فأنزل الله: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}.. وعن مجاهد أيضًا: كانوا يتكلمون في الصلاة بحاجتهم، فنزل قوله تعالى: {.. لعلكم ترحمون}.
والذين يرون أنها خاصة بقراءة القرآن في الصلاة يستشهدون بما رواه ابن جرير: حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا الجريري، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدثان والقاص يقص يعني والقارئ يقرأ فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود، يعني قوله تعالى: {لعلكم ترحمون} قال: فنظرا إلي ثم أقبلا على حديثهما؛ قال فأعدت، فنظرا إلي وأقبلا على حديثهما! قال فأعدت الثالثة، قال: فنظرا إلي فقالا: إنما ذلك في الصلاة: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}.
قال ابن كثير وهو يروي هذا الخبر: وكذا قال سفيان الثوري عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير عن مجاهد في قوله: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} قال: في الصلاة، وكذا رواه غير واحد عن مجاهد. وقال عبد الرازق، عن الثوري عن ليث عن مجاهد، قال: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم..
وبعضهم يرى أنها في الصلاة وفي الخطبة كذلك في الجمع والعيدين، قاله سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار، ويزيد بن أسلم، والقاسم بن مخيمرة، ومسلم بن يسار، وشهر بن حوشب وعبد الله ابن المبارك، ولكن القرطبي قال: وهذا ضعيف، لأن القرآن فيها قليل، والإنصات يجب في جميعها. قاله ابن العربي والنقاش: والآية مكية ولم يكن بمكة خطبة ولا جمعة.
وقال القرطبي في التفسير: قال النقاش: أجمع أهل التفسير أن هذا الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة. النحاس: وفي اللغة يجب أَن يكون في كل شيء، إلا أن يدل دليل على اختصاص شيء.
ونحن لا نرى في أسباب النزول التي وردت ما يخصص الآية بالصلاة المكتوبة وغير المكتوبة، ذلك أن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب. والأقرب أن يكون ذلك عامًا لا يخصصه شيء، فالاستماع إلى هذا القرآن والإنصات له- حيثما قرئ- هو الأليق بجلال هذا القول، وبجلال قائله سبحانه! وإذا قال الله أفلا يستمع الناس وينصتون؟! ثم رجاء الرحمة لهم: {لعلكم ترحمون}.. ما الذي يخصصه بالصلاة؟ وحيثما قرئ القرآن، واستمعت له النفس وأنصتت، كان ذلك أرجى لأن تعي وتتأثر وتستجيب؛ فكان ذلك أرجى أن ترحم في الدنيا والآخرة جميعًا..
إن الناس يخسرون الخسارة التي لا يعارضها شيء بالانصراف عن هذا القرآن.. وإن الآية الواحدة لتصنع أحيانًا في النفس- حين تستمع لها وتنصت- أعاجيب من الانفعال والتأثر والاستجابة والتكيف والرؤية والإدراك، والطمأنينة والراحة، والنقلة البعيدة في المعرفة الواعية المستنيرة.. مما لا يدركه إلا من ذاقة وعرفه!
وإن العكوف على هذا القرآن- في وعي وتدبر لا مجرد التلاوة والترنم!- لينشئ في القلب والعقل من الرؤية الواضحة البعيدة المدى؛ ومن المعرفة المطمئنة المستيقنة؛ ومن الحرارة والحيوية والانطلاق! ومن الإيجابية والعزم والتصميم؛ ما لا تدانيه رياضة أخرى أو معرفة أو تجريب!
وإن رؤية حقائق الوجود- من خلال التصوير القرآني- وحقائق الحياة، ورؤية الحياة البشرية وطبيعتها وحاجاتها من خلال التقريرات القرآنية، لهي رؤية باهرة واضحة دقيقة عميقة.
تهدي إلى معالجتها وإلى مزاولتها بروح أخرى، غير ما توجه إليه سائر التصويرات والتقريرات البشرية..
وهذا كله أرجى إلى الرحمة.. وهو يكون في الصلاة وفي غير الصلاة. وليس هناك ما يخصص هذا التوجيه القرآني العام بالصلاة كما روى القرطبي عن النحاس.
ثم تنتهي السورة بالتوجيه إلى ذكر الله عامة.. في الصلاة وفي غير الصلاة.
{واذكر ربك في نفسك تضرعاَ وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون}..
قال ابن كثير في التفسير: يأمر الله تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيرًا. كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله: {فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} وقد كان هذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء. وهذه الآية مكية- وقال ها هنا: بالغدو، وهو أول النهار، والآصال جمع أصيل- كما أن الأيمان جمع يمين- وأما قوله: {تضرعًا وخيفة} أي اذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة وبالقول، لا جهرًا، ولهذا قال: {ودون الجهر من القول}. وهكذا يستحب أن يكون الذكر، لا يكون نداء وجهرًا بليغًا. ولهذا لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه؛ أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته».
ولم يقبل قول ابن جرير وقبله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إن المراد بها أمر السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة.. وقال: فهذا الذي قالاه لم يتابعا عليه، بل المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال لئلا يكونوا من الغافلين. ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فقال: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته}.. الآية. وإنما ذكرهم بهذا ليقتدى بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم..
ونحن نرى فيما أورده ابن كثير من المناسبة والأحاديث النبوية مدى ما كان هذا القرآن وكانت التربية النبوية تنقل إليه نفوس العرب من المعرفة بحقيقة ربهم، وحقيقة الوجود من حولهم. وندرك من سؤالهم ومن الإجابة عليهم مدى النقلة التي نقلها لهم هذا الدين، بهذا الكتاب الكريم، بالتوجيه النبوي القويم.. إنها نقلة بعيدة، تتجلى فيها نعمة الله ورحمته لو كان الناس يعلمون.